الفصل الأول: مقدمة – من أين جاءت فكرة الولادة في الماء؟
الولادة في الماء ليست موضة عابرة كما قد يعتقد البعض، بل هي ممارسة لها جذور قديمة. بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن شعوبًا مثل اليونانيين القدماء والمصريين كانوا يستخدمون الماء كوسيلة لتخفيف آلام المخاض، وإن لم تكن بشكل منظم كما نراها اليوم.
لكن إعادة إحياء هذه الفكرة بشكل طبي ومنهجي يعود إلى سبعينيات القرن العشرين في أوروبا، وخاصة في فرنسا وروسيا. حيث بدأ أطباء وقابلات بملاحظة أن غمر الحامل في الماء الدافئ أثناء المخاض يساعدها على الاسترخاء، ويخفف من الألم، وفي بعض الحالات يجعل عملية الولادة أسرع وأقل تعقيدًا.
اليوم، الولادة في الماء لم تعد فكرة غريبة، بل أصبحت خيارًا متاحًا في العديد من المستشفيات والعيادات حول العالم، بل وحتى في منازل بعض النساء اللواتي يفضلن تجربة أكثر طبيعية. ومع تزايد الوعي الصحي ورغبة الأمهات في تقليل التدخلات الطبية، اكتسبت هذه الممارسة زخمًا كبيرًا.
الفصل الثاني: كيف تتم الولادة في الماء خطوة بخطوة؟
الولادة في الماء ببساطة تعني أن الأم تقضي جزءًا أو كل فترة المخاض داخل حوض ماء دافئ مصمم خصيصًا لهذا الغرض. بعض النساء يكتفين باستخدام الماء في مرحلة المخاض الأولى فقط (لتخفيف الألم والانقباضات)، بينما أخريات يخترن البقاء حتى لحظة خروج الطفل إلى العالم تحت سطح الماء.
الخطوات الأساسية:
- إعداد الحوض:
يكون الحوض كبيرًا بما يكفي لجلوس الأم وتحريك جسدها بحرية، مع مياه بدرجة حرارة تتراوح بين 36–37.5 م° للحفاظ على راحة الأم ومنع انخفاض حرارة المولود. - دخول الأم إلى الماء:
غالبًا يتم إدخال الأم عندما يبدأ المخاض الفعلي (فتح عنق الرحم 4–5 سم). الهدف هنا هو الاستفادة من الماء في تسكين الألم وتسهيل الحركة. - مرحلة الدفع:
عندما يقترب وقت الولادة، تستطيع الأم اختيار البقاء في الماء أو الخروج. إذا بقيت، يخرج المولود مباشرة في الماء، حيث يكون محاطًا بالسوائل مثلما كان في الرحم، ثم يتم رفعه فورًا إلى السطح ليبدأ التنفس. - الفحص الطبي الفوري:
القابلة أو الطبيب يتأكدان من تنفس الطفل بشكل طبيعي، وفحص لون بشرته، وقطع الحبل السري بعد دقائق.
باختصار، هي عملية طبيعية جدًا لكن مدعومة بتقنيات طبية حديثة تجعلها أكثر أمانًا.
الفصل الثالث: الفوائد المحتملة – بين العلم وتجارب الأمهات
هنا تبدأ النقطة الجوهرية: لماذا تختار بعض النساء الولادة في الماء بدلًا من السرير التقليدي؟
الفوائد كما تدعمها بعض الدراسات والتجارب:
- تخفيف الألم بشكل طبيعي: الماء الدافئ يعمل كمسكّن طبيعي بفضل تأثيره على الأعصاب والعضلات.
- تقصير مدة المخاض: الحركة في الماء أسهل، مما يساعد على تسريع نزول الجنين.
- تقليل الحاجة للتخدير أو المسكنات: كثير من النساء اللاتي جربن الولادة في الماء أبلغن أنهن لم يحتجن إلا لأقل قدر من التدخل الطبي.
- الشعور بالتحكم والاستقلالية: الأم تشعر أنها تقود عملية الولادة بنفسها، وليست مجرد مريضة على السرير.
- سهولة الحركة: الحوض يسمح بتغيير الوضعيات بسهولة (جلوس، انحناء، قرفصاء).
- راحة نفسية: الماء يقلل من التوتر والقلق، مما يحسن إفراز هرمونات مثل الأوكسيتوسين المهم للولادة.
لكن، يجب التنويه أن هذه الفوائد ليست مضمونة بنسبة 100% لكل امرأة، بل تختلف حسب الحالة الصحية، وضعية الجنين، وخبرة الطاقم الطبي.
الفصل الرابع: هل الولادة في الماء فعلاً تقلل الألم؟
الألم أثناء الولادة موضوع شائك؛ فهو ليس مجرد ألم جسدي، بل هو مزيج بين الانقباضات، الضغط النفسي، والخوف. لكن الماء له سحره الخاص في هذه المرحلة.
- تأثير الحرارة: الماء الدافئ يرخّي العضلات ويزيد تدفق الدم، مما يقلل من الشعور بالألم الحاد.
- تقليل ضغط الجاذبية: عندما يكون الجسم مغمورًا في الماء، يقل الضغط على المفاصل والحوض، ما يخفف من انزعاج الأم.
- تحفيز هرمونات “المسكن الطبيعي”: دخول الأم في حالة استرخاء داخل الماء يعزز إفراز الإندورفينات (هرمونات السعادة) التي تعمل كمسكنات طبيعية.
في دراسة نشرت بمجلة Journal of Midwifery & Women’s Health ، وُجد أن النساء اللاتي ولدن في الماء أبلغن عن مستويات أقل من الألم مقارنة بالولادة التقليدية.
الفصل الخامس: الجانب النفسي – عندما يصبح الماء حضنًا ثانيًا
لا يمكن إنكار أن الولادة تجربة نفسية قبل أن تكون جسدية. وهنا يظهر دور الماء كبيئة “أمومية” تمنح الأم شعورًا بالاحتواء.
- إحساس بالسيطرة: الأم في الماء ليست مقيدة بالسرير أو الأجهزة، بل تتحرك بحرية وتقرر وضعيتها.
- تقليل التوتر والقلق: صوت الماء وحركته لهما تأثير مهدئ يشبه العلاج بالماء (Hydrotherapy).
- تجربة أكثر حميمية: كثير من النساء يصفن الولادة في الماء بأنها “أكثر دفئًا وإنسانية”، حيث يشعرن بأنهن أقرب لأطفالهن منذ اللحظة الأولى.
حتى على مستوى المولود، بعض الدراسات تقترح أن ولادة الطفل مباشرة في الماء تجعل انتقاله من رحم الأم إلى العالم الخارجي أكثر سلاسة وأقل صدمة. تخيلي: من ماء الرحم إلى ماء الحوض، ثم إلى حضن الأم. 💙
الفصل السادس: تقليل التدخلات الطبية – حلم كل أم
إحدى أبرز مميزات الولادة في الماء هي أنها غالبًا ما تكون طبيعية أكثر وأقل تدخلًا طبيًا.
- انخفاض الحاجة للتخدير النصفي (إبرة الظهر): لأن الألم يكون أخف.
- أقل احتمال لشق العجان (Episiotomy): الماء يساعد على ليونة الأنسجة، فيسهل مرور رأس الطفل.
- تقصير فترة المخاض: مما يقلل الحاجة إلى محفزات صناعية مثل الأوكسيتوسين الوريدي.
- تقليل احتمالية الولادة القيصرية: بعض الأبحاث أشارت إلى أن النساء اللاتي اخترن الولادة في الماء كانت نسبتهن أقل في الخضوع للقيصرية الطارئة.
ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن نجاح الولادة الطبيعية (سواء في الماء أو خارجه) يعتمد على عوامل عديدة: مثل حجم الجنين، وضعه في الحوض، خبرة القابلة أو الطبيب، وحالة الأم الصحية.
الفصل السابع: المخاطر المحتملة للولادة في الماء
رغم أن الصورة تبدو شاعرية وهادئة، إلا أن الولادة في الماء ليست بلا مخاطر. الطب دائمًا يضع خطين تحت كلمة “احتمالات”.
- خطر العدوى: إذا لم يتم تعقيم الحوض أو تغيير الماء بشكل مناسب، قد تتعرض الأم أو المولود لالتهابات.
- الطوارئ المفاجئة: في حال حدوث نزيف غزير أو تعثر ولادة الطفل، قد يكون إخراج الأم بسرعة من الحوض صعبًا ويؤخر التدخل الطبي.
- مضاعفات تنفسية للطفل: نادرة جدًا، لكنها ممكنة. إذا لم يُسحب الطفل بسرعة إلى خارج الماء، قد يحاول التنفس قبل الأوان.
- إصابة الحبل السري: عند إخراج المولود قد يحدث شد مفاجئ على الحبل السري في بعض الحالات.
المهم هنا أن نعرف أن المخاطر قليلة الحدوث لكنها موجودة، وغالبًا يمكن تقليلها إذا كانت الولادة تحت إشراف فريق طبي مدرَّب.
الفصل الثامن: الحالات التي يُمنع فيها اللجوء للولادة في الماء
ليست كل امرأة مرشحة للولادة المائية. الأطباء عادةً يضعون قائمة “ممنوعات” للحفاظ على سلامة الأم والطفل:
- الحمل عالي الخطورة (مثل وجود مشاكل في ضغط الدم أو سكري الحمل غير المسيطر عليه).
- الحمل بتوأم أو أكثر.
- الولادة المبكرة (قبل الأسبوع 37).
- وجود نزيف غير مبرر أثناء الحمل.
- إذا كان الطفل في وضعية غير مناسبة (مثل المقعدية).
- الأم المصابة بعدوى جلدية أو مهبلية قد تنتقل عبر الماء.
في هذه الحالات، الولادة في الماء تتحول من خيار “مريح” إلى خطر محتمل، والأفضل الالتزام بالطريقة التقليدية مع متابعة دقيقة.
الفصل التاسع: آراء الأطباء والمراكز الصحية
المجتمع الطبي لا يزال منقسمًا حول الولادة المائية.
- المدافعون عنها: يشيرون إلى أن التجارب العملية أظهرت فوائدها في تقليل الألم، التدخلات الطبية، وتوفير تجربة إنسانية أكثر للأم. كثير من القابلات والمستشفيات في أوروبا (خصوصًا بريطانيا وألمانيا) يوفرون أحواض مخصصة للولادة المائية.
- المتحفظون: يقولون إن الدراسات حتى الآن غير كافية لإثبات أمانها التام، خصوصًا على المدى الطويل بالنسبة للمواليد. الجمعيات الطبية الكبرى مثل American College of Obstetricians and Gynecologists (ACOG) تسمح باستخدام الماء خلال مرحلة المخاض الأولى لتخفيف الألم، لكنها لا تنصح بولادة الطفل نفسه تحت الماء بسبب المخاطر المحتملة.
الواقع إذن: الولادة المائية ليست “أفضل للجميع” وليست “خطرًا مطلقًا”. هي خيار وسط يعتمد على الأم، حالتها، ورغبتها، بشرط أن يكون الفريق الطبي مؤهلًا لذلك.
الخاتمة: هل الولادة في الماء خيارك الأفضل فعلًا؟
بعد استعراض كل الجوانب، من الفوائد المحتملة إلى المخاطر، ومن التجارب الواقعية إلى آراء الأطباء، يتضح أن الولادة في الماء ليست مجرد “موضة عابرة” في عالم الولادة، بل خيار بديل بدأ يفرض نفسه تدريجيًا.
هي ليست مثالية للجميع، لكنها قد تكون تجربة استثنائية لمن تبحث عن:
- ولادة أكثر هدوءًا.
- تحكّم أكبر بجسدها.
- تقليل نسبي للشعور بالألم.
لكنها أيضًا تحتاج إلى:
- إشراف طبي دقيق.
- بيئة مجهزة بالكامل.
- وعي بالمخاطر المحتملة.
في النهاية، القرار يظل شخصيًا جدًا. كل أم لها قصتها، وظروفها، وحدود راحتها. المهم أن تختار المرأة الطريقة التي تشعر معها بالأمان والثقة — سواء كانت في غرفة عمليات، أو في غرفة ولادة تقليدية، أو حتى في حوض ماء دافئ يحيطها بالسكينة.
المصادر والروابط الموثوقة
- NHS – Water birth: benefits and risks
- Mayo Clinic – Water birth: Is it safe?
- American College of Obstetricians and Gynecologists (ACOG) – Committee Opinion on Water Birth
- Cleveland Clinic – Water Birth: Benefits, Risks, What to Expect
- World Health Organization (WHO) – Recommendations on Intrapartum Care
اكتشاف المزيد من صحتي تاج
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.







